الاثنين، 11 أكتوبر 2021

يوميات الموظفين.. مكتب تمليك بمنافعه

 


مشهد واقعي في أحد المكاتب الحكومية

زفت المديرة للموظفين نبأ نقل موظفة جديدة إلى القسم لتخفف عنهم ضغط العمل، وعلى غير توقعها، فوجئت بثورة إحدى الموظفات التي أعلنت بحسم رفضها استقبال تلك الزميلة الجديدة “لأنها بتاعة مشاكل”، ليفهم كل من في المكتب أنها “مش مستلطفاها”.. في مشهد شبيه بالاجتماعات العائلية التي تجرى لتقييم فرد جديد راغب في الانضمام للعائلة..

هذا المشهد ودلالته ليست جديدة على عالم “موظفين الحكومة” في مصر. فعلي مدار سنوات طويلة، كانت هناك محاولات عديدة لتفسير المشاكل التي تواجه المواطنين في التعامل مع الموظفين. أرجع البعض ذلك لضعف المقابل المادي الذي يتلقاه الموظفون، بينما رأى آخرون أن السبب يرجع لوجود ضغوط يومية عليهم، بالإضافة لغياب منظومة واضحة وعادلة للثواب والعقاب.

كل هذه التفسيرات تقدم رؤى صحيحة لجوانب من المشكلة، لكن هناك جانب آخر لا يقل أهمية، أشهده في خبراتي اليومية وأرى فيه سببًا مهمًا من مسببات تلك العلاقة المرتبكة بين المواطنين والموظفين.

يستمر أغلب الموظفين في مواقعهم لفترات طويلة جدا تصل إلى سنوات، فمن الوارد أن تجد موظفًا أو موظفة لم يغير مكتبه أو الحجرة التي يعمل بها لـ15 عامًا، ما يجعله يعتاد المكان والزملاء – الذين نادرًا ما يتغيرون كذلك- ويبدأ في التصرف معهم وكأنهم من أفراد العائلة.

يعود هذا لكراهية الموظفين للتغيير الذي يغلب عليهم الخوف منه، خشية الانتقال إلى مكتب جديد لا يرتاحون فيه للزملاء، أو يزعجهم فيه المدير. بل ويرفض بعضهم الانتقال لمجرد اعتياده علي الطريق اليومي من البيت للمكتب، واستخدامه نفس المواصلات. وهو ما يولد لديهم إحساسا بالاستقرار والألفة، التي قد تدفعهم لتصرفات تبدو لهم بديهية، لكن المواطنين يرونها غير مقبولة.

مسقعة وبيض وعقيقة

قبل عامين تقريبًا انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور التقطها مواطن داخل إدارة تابعة لوزارة التموين بمركز منوف بالمنوفية، في الصور كانت الموظفات يسيرن مصالح الموطنين في فترات راحتهم من “تقطيف الملوخية” وإعداد خضروات المحشي.

موظفات يعددن المحشي في “منوف” – فيسبوك

لاقت تلك الصور استهجانًا وصل للصحف الورقية والإلكترونية. هذا التصرف الذي تحدثت عنه الأفلام الكوميدية ساخرة منه منذ ثمانينات القرن الماضي، أثبتت تلك الصور أنه ممارسة عادية في المكاتب الحكومية.

لكن مشاهدًا أخرى تنتشر بين الموظفين، تؤكد وجود تلك الحالة من معاملة المكتب كالبيت، كتناول بعض أنواع الطعام غير المفترض تناولها في أماكن العمل، مثل الجبنة القديمة (المش) والمسقعة، وطبق اللحم والأرز “نصيب الزملاء من العقيقة”، والجمبري والكشري والبيض والبصارة والبصل.

ولهذه الوجبات طقوس، أهمها إغلاق باب المكتب على الموظفين ومنع دخول المواطنين “عشان الموظفين بيفطروا”، وإغلاق الشبابيك: “أحسن حد يصورنا زي ما عملوا مع موظفين و جابوهم ع النت”.

ولا تغيب الحلوى عن المكتب حيث تتبارى الموظفات في إظهار مهاراتهن المطبخية في صناعة الأرز باللبن والكيك. ولا يخجل زملاؤهم الذكور من طلب أوردرات بعينها، إذا ما طرق أذن أحدهم صوت زميلته التي تتفاخر ببراعتها في إمتاع الأسرة بالكيك: “طب ما تدوقينا يا أستاذة”.

يضاف إلى ذلك أيضًا الحلوي التي يلتزم الموظفون – في دستور غير مكتوب- بإحضارها من إجازاتهم المصيفية، كالهريسة والبسبوسة من الأسكندرية، والمشبك من دمياط، والتسالي “لب أبيض من مرسي مطروح”. إضافة إلى أنواع الفاكهة المختلفة والمشروبات الباردة. أما الساخنة، فيجري إعدادها بواسطة السخان الكهربائي الموجود في كل مكتب.

تقطيف الملوخية في المكاتب الحكومية 

وفي حالة فريدة من نوعها أحضر أحد الموظفين أصحاب المزاج العالي “السبرتاية” لإعداد القهوة. وطبعًا لم ينس الفناجين التي تضمن ضبط المزاج.

كما تتحول أدراج المكتب ودولاب الأوراق إلى أماكن لتخزين الطعام والأعشاب والأكواب والبقسماط والبسكويت. أما السيدات فيستخدمن مساحتهن في دولاب الدوسيهات وأدراج مكاتبهن، لحفظ بعض أدوات الزينة والمرايا، وأحيانًا بعض قطع الملابس وبكرات الخيط، ومقصات وقصافات أظافر .

يعود هذا إلى إحساس الموظفين بكون المكتب قد غدا كالبيت، لقد صاروا يشعرون فيه بالألفة والاطمئنان و”الرحرحة” نفسها التي يمارسونها في منازلهم، فلم تعد هناك حدود لما يمكن أكله في البيت فقط. وربما يشعرون بالوخم والإرهاق الناتج عن تناول “الأكلات التقيلة”، فتنزاح الأوراق جانبًا مصحوبة بجملة “هاريح شوية عالمكتب”.

أسرة مع بعضينا

الإحساس بكون الزملاء جزء من العائلة لا يتوقف عند تطفيش الموظف أو الموظفة التي لا تتوافق مع المجموعة، أو إن كانت تمثل عبئًا، كما حدث في إحدي المرات عندما قامت الموظفات بتطفيش زميلة، لأنها ستزاحمهم علي نفس المكتب، وعاملوها بجفاء وتعمدوا إجلاسها بشكل غير مريح وتجاهلها، إلى أن اضطرت لطلب نقلها إلى مكتب آخر.

كذلك تؤدي تلك الفكرة لأن يكون التعامل بين الزملاء أقرب للتعامل بين جيران في عمارة، أو مجموعة من الأقارب، لذلك قد تجد موظفة كبيرة في السن تعامل من هم أصغر منها سنًا كما تعامل الأم أبنائها، وليس كتعامل زملاء في العمل. ويحمل هذا بالطبع عيوبًا إلى جانب المميزات؛ فإذا وقع خلاف بينها وبين أحد الموظفين بسبب تقصيرها في العمل مثلا سيكون الرد: “ده أنا واحدة في سن والدته”.

وتتعامل الزميلات مع زملائهن الذكور بمفهوم “راجل المكتب”، وهو المقابل الموضوعي لـ”راجل البيت” المطلوب منه القيام بعمليات الإصلاح البسيطة للكهرباء، وشحن الرصيد وإصلاح الهواتف المحمولة والتعامل مع الانترنت، أو تحريك المكاتب الثقيلة والتصدي للضيوف غير المرغوب فيهم.

تضامن اجتماعي إجباري

ومن أهم ما يترتب علي تلك الأجواء العائلية ..أداء واجبات المجاملة الاجتماعية، والتي غالبًا ما تاخذ شكل ورقة، تدوّن بها أسماء من دفعوا مبلغ معين للمجاملة “نقوط” في بعض المناسبات، مثل التعرض لحادث أو إجراء عملية جراحية، أو زواج أو خطوبة أحد الموظفين أو إنجابه، ونجاح أولاده في إحدي الشهادات الدراسية، أو زواج وإنجاب أحد الأبناء، أو العودة من الحج والعمرة…. إلخ. ومن لا يشارك في هذه المجاملات يُعامل معاملة المارق في العائلة، أو يُتَّهم بالبخل وعدم أداء الواجب.

“جمعية مدام شادية حلوة.. بتعدي بسرعة”

-موظف-

وقد يحدث مع تكرار المناسبات وتنوعها أن يحاول البعض تغيير القواعد، أو يرفض مجاملة شخص معين لا يحبه، أو تحديد نوعية المناسبات التي يقبل بالمجاملة فيها. وغالبًا ما يُقابَل بنظرات الاستهجان في حالة فشله في إقناع باقي الموظفين بعدم جدارة تلك المناسبة بالمجاملة.

يأتي التضامن الاجتماعي أيضًا في شكل “الجمعيات”، التي يديرها البعض كطريقة دورية للادخار، أو يضطرون إليها أحيانًا عند تعرض أحدهم لضائقة مالية، أو احتياجه لتدبير مبلغ كبير من المال في وقت محدد.

“فلوس الجمعية” – فيلم أميرة حبي أنا 

وبمرور الوقت يتحول البعض لمحترفين في عمل الجمعيات، وتسمع مقولة مثل: “جمعية مدام شادية حلوة.. بتعدي بسرعة”. وقد وصلت مهارة إحدى الموظفات في إقناع الزملاء بدخول الجمعية، لدرجة إقناع سائق الأوتوبيس الذي تركبه يوميًا بالانضمام لجمعية مع الموظفين.

ويؤدي ذلك التقارب إلى غياب الخصوصية في كثير من الأحوال. ويبدأ فقد الخصوصية بالسؤال المُلح عن العائلة. وتصل عند البعض لمشاركة حكايات المشاجرات الزوجية بالتفصيل من باب الفضفضة، أو أخذ الرأي. ليصبح من في المكتب متابعين لأدق تفاصيل المشكلات العائلية للزملاء ولهم رأي وتأثير فيها.

ويتخذ الاعتماد على الزملاء ومعاملتهم كأفراد العائلة حد أن واحدة من الموظفات أتت مرة بابنتها إلى المكتب، لتسأل الزملاء عن المدرسة المناسبة لاختيارها بعد المرحلة الاعدادية، بل وعن نوعية الدراسة التي على ابنتها ان تلتحق بها، وإن كانت تصلح للثانوية العامة أم تكتفي بالثانوية التجارية.

وبالطبع هناك الواجب المقدس للموظفين والموظفات، وهو محاولة تزويج من لم يتزوج، أو القيام بدور واسطة الخير في زواج مفترض. ولا يوجد حرج في أن يُسأل الموظف “إنت ماتجوزتش ليه لحد دلوقتي؟”

إنت تبع مين؟

ومع الأحداث السياسية العديدة التي شهدتها البلاد في الفترة الماضية؛ كان للنقاشات السياسية مساحة كبيرة حيث شهدت مختلف المكاتب الحكومية إصرارًا من الموظفين علي معرفة الاتجاهات السياسية للزملاء، والتعرف على خياراتهم السياسية “هتنتخب مين؟” أو “ما روحتش الاستفتاء ليه؟”.

وقد تتصاعد الخلافات السياسية لتصل للشجار والتربص والخصام، أوالسخرية المتبادلة كما كان يحدث داخل أغلب العائلات المصرية. وفي السنوات الثلاث الأخيرة؛ تحولت الاختلافات إلى قائمة الاتهامات التي يتم توجيهها لكل من يبدو عليه مخالفة “الإجماع الوطني” باتهامه بكونه إخوان / شيوعي / علماني / خلية نائمة / طابور خامس.

نتيجة لكل ذلك ..علي المواطن أن يتعامل عند دخوله لمكتب حكومي بطريقة تشبه تعامله عند دخول منزل مصري، أو بيت عائلة. وأن يتفهم أن من أسباب الجفاء أو اللامبالاة أو الانشغال عنه، هو اعتباره “ضيفا دخيلا علي أسرة تجلس في تجانس تتناول الطعام وتتبادل القفشات”.

هو هنا ليس مواطنًا صاحب حق في خدمة أو مصلحة؛ فالموظفين لا يتنبهون لذلك المفهوم. ولأن تلك الفكرة تستفز الموظف الذي قد يبادره بعبارات متحدية، يثبت بها سيطرته وسط عائلته من الموظفين قائلا “أنا مباشتغلش عندك”، أو “شوية كده هنفطر وتعالى” وصولا لـ”لو مش عاجبك اشتكي”.

Facebook Comments